فصل: قال ابن جزى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

أخبر أنه- في الحقيقة- لا يعود إليه عائد من أوصاف الخَلْق؛ إنْ كُنتَ في العبادة التي هي حق الحق أو في أحكام العادة من صحبة جِنْسِك التي هي غاية النفس والحظ، فَسِيَّان في حالك إذا أورد فيه الإذن.
نزلت الآية في زَلَّةٍ بَدَرَتْ من الفاروق، فَجَعَلَ ذلك سببَ رُخْصةٍ لجميع المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية.
ويقال علم أنه لابد للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظِّك، فقال أما حقي {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وأما حظك {وَكَلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ}.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
أخبر أن محل القدرة مقدَّس عن اجتلاب الحظوظ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بِكُم فيكم، وإذا كنتم قائمين بِنَا فلا تعودوا منَّا إليكم.
ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يُمزَجَ الجدُّ بالهزلِ. اهـ.

.فصل في صوم الجنب:

قال الفخر:
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح. اهـ.

.قال ابن عادل:

ويؤيِّده ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدركه الفجر، وهو جنبٌ من أهله، ثم يغتسل ويصوم، والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياسًا لأول النهار على آخره، فكما أن آخره بغروب القرص، وجب أن يكون أوله بطلوع القرص، وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد، فإما أن يكون التشبيه في الشكل مرادًا فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة، فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلًا مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك، فيكون قبل طلوع الشمس ليلًا، وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص، فهذا تقرير قول الأعمش، ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار، ومنهم من قال: لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة، ومنهم من زاد عليه وقال: بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب، وهذه المذاهب قد انقرضت، والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها. اهـ.

.فصل في إتمام صوم النفل:

الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى: {أَتِمُّواْ الصيام} والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام.
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض؛ بدليل أنَّه- عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: «الصائم المتطوِّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر».
وعن أمِّ هانئ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا، فَشَرِبَتْ، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ، فقال: «إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ، فاقْضي مَكَانَهُ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فإن شِئْتِ فاقْضي، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي». اهـ.

.قال الفخر:

من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف:
قوله تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد}.
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم، وبين أن من حكمه تحريم المباشرة، كان يجوز أن يظن في الاعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهارًا لا ليلًا، فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهارًا وليلًا، فقال: {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} ثم في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: معنى الاعتكاف:

قال الشافعي رضي الله عنه: الاعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه، برًا كان أو إثمًا، قال تعالى: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138] والاعتكاف الشرعي: المكث في بيت الله تقربًا إليه، وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف، وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: {أن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين} [البقرة: 125] وقال تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد}.

.المسألة الثانية: ما يجوز للمعتكف من زوجته:

لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز، لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، أما إذا لمسها بشهوة، أو قبلها، أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام على المعتكف، وهل يبطل بها اعتكافه؟ للشافعي رحمه الله فيه قولان: الأصح أنه يبطل، وقال أبو حنيفة، لا يفسد الاعتكاف إذا لم ينزل، احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين، فقوله: {وَلاَ تباشروهن} منع من هذه الحقيقة، فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور، لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها.
فإن قيل: لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع؟
قلنا: لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع، وهو قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع، ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذنًا فيما دون الجماع بطريق الأولى، أما هاهنا فلم يوجد شيء من هذه القرائن، فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال: إنها لا تبطل الاعتكاف، أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج، فوجب أن لا تفسد الاعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب: أن النص مقدم على القياس. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} جملةٌ حاليةٌ من فاعل {تُبَاشِرُوهُنَّ}، والمعنى: {لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ}، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضًا. اهـ.

.قال القرطبي:

إذا أتى المعتكف كبيرةً، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {تِلْكَ} لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الاعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الاعتكاف إلا حدًا واحدًا، وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى هاهنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل. اهـ.

.قال ابن جزى:

قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله} أحكامه التي أمر بالوقوف عندها {فلا تقربوها} أي لا تقربوا مخالفتها واستدل بعضهم به على سد الذرائع لأن المقصود النهي عن المخالفة للمحدود لقوله تلك حدود الله فلا تعتدوها ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدا للذريعة. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:

.بَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ مِنْ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَأَنَّهُ كَانَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعَتَمَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى الْقَابِلَةِ رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّوْمِ الْأَوَّلِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ وَرَقَدَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ.
وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى نَامَ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَأَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَجَاءَ عُمَرُ وَقَدْ أَصَابَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا نَامَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} وَنَسَخَ بِهِ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ.
وَالرَّفَثُ الْمَذْكُورِ هُوَ الْجِمَاعُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَلَمِ فِيهِ وَاسْمُ الرَّفَثِ يَقَعُ عَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْفَاحِشِ وَيُكَنَّى بِهِ عَنْ الْجِمَاعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}: إنَّهُ مُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: عَنْ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ نَفْسُهُ؛ لِأَنَّ رَفَثَ الْكَلَامَ غَيْرُ مُبَاحٍ، وَمُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ لَيْسَ لَهَا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ لَا فِيمَا سَلَفَ وَلَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِمَاعِ فَأُبِيحَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنُسِخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَظْرِ وقَوْله تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} بِمَعْنَى هُنَّ كَاللِّبَاسِ لَكُمْ فِي إبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَمُلَابَسَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهُ تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِاللِّبَاسِ السِّتْرُ؛ لِأَنَّ اللِّبَاسَ هُوَ مَا يَسْتُرُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اللَّيْلَ لِبَاسَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بِظَلَامِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَتَرَ صَاحِبَهُ عَنْ التَّخَطِّي إلَى مَا يَهْتِكُهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَفِّفًا بِالْآخَرِ مُسْتَتِرَا بِهِ وقَوْله تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ذِكْرٌ لِلْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْخِطَابُ وَاعْتِدَادٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْنَا بِالتَّخْفِيفِ بِإِبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ وَاسْتِدْعَاءٌ لِشُكْرِهِ عَلَيْهَا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَسْتَأْثِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، كَقَوْلِهِ: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَخُونُهَا، وَسَمَّاهُ خَائِنًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ ضَرَرُهُ عَائِدًا عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُسْتَأْثِرِ لَهُ، فَهُوَ يُعَامِلُ نَفْسَهُ بِعَمَلِ الْخَائِنِ لَهَا، وَالْخِيَانَةُ هِيَ انْتِقَاصُ الْحَقِّ عَلَى جِهَةِ الْمُسَاتَرَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْآخَرُ: التَّخْفِيفُ عَنْكُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ، كَقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: خَفَّفَ عَنْكُمْ، وَكَمَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَإِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} يَعْنِي تَخْفِيفَهُ؛ لِأَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا تَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَعَفَا عَنْكُمْ} يَحْتَمِلُ أَيْضًا الْعَفْوَ عَنْ الذَّنْبِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ بِخِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أَحْدَثُوا التَّوْبَةَ مِنْهُ عَفَا عَنْهُمْ فِي الْخِيَانَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا التَّوْسِعَةُ وَالتَّسْهِيلُ بِإِبَاحَةِ مَا أَبَاحَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ يُعَبَّرُ بِهِ فِي اللُّغَةِ عَنْ التَّسْهِيلِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» يَعْنِي تَسْهِيلَهُ وَتَوْسِعَتَهُ وقَوْله تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إبَاحَةٌ لِلْجِمَاعِ الْمَحْظُورِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، وَالْمُبَاشَرَةِ هِيَ إلْصَاقِ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ؛ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمُ: هِيَ الْمُوَاقَعَةُ وَالْجِمَاعُ وَقَالَ فِي الْمُبَاشَرَةِ مَرَةً: هِيَ إلْصَاقُ الْجِلْدِ بِالْجِلْدِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُبَاشَرَةِ النِّكَاحُ، وَقَالَ مُجَاهِدً: الْجِمَاعُ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلّ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
وَقَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْوَلَدُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ مِثْلُهُ، وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ: الرُّخْصَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الْجِمَاعَ، فَقَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْجِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرَارِ الْمَعْنَى فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، وَنَحْنُ مَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالَ كُلِّ لَفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إبَاحَةَ الْجِمَاعِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} عَلَى غَيْرِ الْجِمَاعِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ الْوَلَدَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، أَوْ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَهَا لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْجَمِيعِ، وَعَلَى أَنَّ الْكُلَّ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُنْتَظِمًا لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ وَلِاتِّبَاعِ رُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِطَلَبِ الْوَلَدِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَأْجُورًا عَلَى مَا يَقْصِدَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِطَلَبِ الْوَلَدِ عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَكَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا بِقَوْلِهِ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.
وَقَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وَنَظَائِرَ ذَلِكَ مِنْ الْإِبَاحَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّفْظِ مَقْصُورًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَلَا النَّدْبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} قَالَ أَبُو بَكْرِ: قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ، رُوِيَ أَنَّ رِجَالًا مِنْهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَيَطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَتَبَيُّنِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، مِنْهُمْ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيس الْمَعْنِيُّ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قَالَ: أَخَذْتُ عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ فَوَضَعْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَتَبَيَّنْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ: «إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ طَوِيلٌ إنَّمَا هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» قَالَ عُثْمَانُ: إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} وَلَمْ يَنْزِل: {مِنْ الْفَجْرِ} قَالَ: فَكَانَ رِجَالٌ إذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنْ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ قوله: {مِنْ الْفَجْرِ} مُبَيَّنًا فِيهِ فَلَا إلْبَاسَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ حَقِيقَةُ الْخَيْطِ، لِقَوْلِهِ: {مِنْ الْفَجْرِ} وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ قَبْلَ نُزُولِ قوله: {مِنْ الْفَجْرِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَيْطَ اسْمٌ لِلْخَيْطِ الْمَعْرُوفِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضِ النَّهَارِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ كَانَ شَائِعًا فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمَنْ خُوطِبُوا بِهِ مِمَّنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَأَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا عَرَفُوا هَذِهِ اللُّغَةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْعَرَبِ تَعْرِفُ سَائِرَ لُغَاتِهَا.
وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عَرَفُوا ذَلِكَ اسْمًا لِلْخَيْطِ حَقِيقَةً وَلِبَيَاضِ النَّهَارِ وَسَوَادِ اللَّيْلِ مَجَازًا وَلَكِنَّهُمْ حَمَلُوا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْد ذَلِكَ: {مِنْ الْفَجْرِ} فَزَالَ الِاحْتِمَالُ وَصَارَ الْمَفْهُومُ مِنْ اللَّفْظِ سَوَادَ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْمًا لِسَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَشْهُورًا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ؛ قَالَ أَبُو دَاوُد الْإِيَادِيُّ: وَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا ظُلْمَةٌ وَلَاحَ مِنْ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وَقَالَ آخَرُ فِي الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: قَدْ كَادَ يَبْدُو أَوْ بَدَتْ تُبَاشِرُهُ وَسِدْفُ الْخَيْطِ الْبَهِيمِ سَاتِرُهُ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِي اللِّسَانِ قَبَلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هُوَ الصُّبْحُ وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ اللَّيْلُ؛ قَالَ: وَالْخَيْطُ هُوَ اللَّوْنُ.
فَإِنْ قِيلِ:
كَيْفَ شَبَّهَ اللَّيْلَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصُّبْحَ إنَّمَا شُبِّهَ بِالْخَيْطِ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيلٌ أَوْ مُسْتَعْرِضٌ فِي الْأُفُقِ، فَأَمَّا اللَّيْلُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْطِ تَشَابُهٌ وَلَا مُشَاكَلَةٌ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْمَوْضِعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ فِيهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُسَاوٍ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْدَهُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَلَى الصَّائِمِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الَّذِي هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُلَازِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمْ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمْ الْأَحْمَرُ».
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ الْأَحْمَرَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفَجْرَ الْأَبْيَضَ الْمُعْتَرِضَ فِي الْأُفُقِ قَبْلَ ظُهُورِ الْحُمْرَةِ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ؛ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْحُمْرَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نَهَارًا إلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ»، قِيلَ لَهُ: لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} فَأَوْجَبَ الصَّوْمَ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِظُهُورِ الْخَيْطِ الَّذِي هُوَ بَيَاضُ الْفَجْرِ.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ إنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ مُبِيحًا لِمَا حَظَرَتْهُ الْآيَةُ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَكْلُ نَهَارًا فِي الصَّوْمِ مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؟ وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْزُ الْأَكْلَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْهُ وَإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ بِذَلِكَ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ قُرْبَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَمَّاهُ نَهَارًا لِقُرْبِهِ مِنْهُ، كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي رُهْمٍ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» فَسَمَّى السَّحُورَ غَدَاءً لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاءِ.
كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي تَسَحَّرَ فِيهِ نَهَارًا لِقُرْبِهِ مِنْ النَّهَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ وَضَحَ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْقِيفِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصَّوْمِ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ، وَأَنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيلَ إلَى وَسَطِ السَّمَاءِ هُوَ مِنْ اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ ذَنَبَ السِّرْحَانِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ، فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَدَعُ الرَّجُلُ السَّحُورُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ أَحَبُّ إلَيَّ، فَإِنْ تَسَحَّرَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ: إنْ أَكَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ قَضَى يَوْمًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الشَّكِّ قَضَاءٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ وَيَرَى مَطْلَعَهُ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ لَيْسَ هُنَاكَ عِلَّةٌ فَلْيَأْكُلْ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ الْفَجْرُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ}.
وَقَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُرَى فِيهِ الْفَجْرُ أَوْ كَانَتْ مُقْمِرَةً وَهُوَ يَشُكُّ فِي الْفَجْرِ فَلَا يَأْكُلُ، وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ قَضَى، وَإِلَّا لَمْ يَقْضِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَبِهِ نَأْخُذُ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الشَّكِّ فِي غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ وَرِوَايَةُ الْإِمْلَاءِ فِي كَرَاهِيَتِهِمْ الْأَكْلَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ مَحْمُولَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ مَا أَجْمَلُوهُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ؛ وَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ لِيَنْظُرَا لَهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي الصَّوْمِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ طَلَعَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ، فَقَالَ: اخْتَلَفْتُمَا فَأَكَلَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَذَلِكَ فِي حَالٍ أَمْكَنَ فِيهَا الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} فَأَبَاحَ الْأَكْلَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ، وَالتَّبَيُّنُ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا أُمِرُوا بِهِ فِي حَالٍ يُمْكِنُهُمْ فِيهَا الْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِطُلُوعِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَيْلَةً مُقْمِرَةً أَوْ لَيْلَةَ غَيْمٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُشَاهِدُ مَطْلِعَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ لِلصَّوْمِ؛ إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِحَالِ الطُّلُوعِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ؛ لِمَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ قَالَ: سَمِعْتَ أَبَا الْجَوْزَاءِ السَّعْدِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ وَلَا أَسْمَعُ أَحَدًا بَعْدَهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ؛ وَسَأَضْرِبُ فِي ذَلِكَ مَثَلًا: إنَّ اللَّهَ حَمَى حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْعَى حَوَلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ، وَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطُ الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُرَ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: «وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ»، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَمْنَعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَحْظُورِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا.
فَمَنْ شَكَّ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى تَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ مَا يَطْلُعُ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَبْرِئًا لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مُجْتَنِبًا لِلرِّيبَةِ غَيْرَ مُوَاقِعٍ لِحِمَى اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَعْمَلْنَا قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} فِيمَنْ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ طُلُوعِهِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ؛ فَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَحِجَاجُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ، وَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَتَسَحَّرُ الرَّجُلُ مَا شَكَّ حَتَّى يَرَى الْفَجْرَ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَأْكُلُ شَاكًّا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُ بِحَالِ إمْكَانِ التَّبَيُّنِ فِي حَالِ طُلُوعِهِ أَوْ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ إغْفَالٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ضَرِيرًا لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُعَرِّفُهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِالشَّكِّ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْبَحَ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَأْمَنُ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِالشَّكِّ، فَإِنْ أَجَازَ هَذَا وَأَلْغَى الشَّكَّ لَزِمَهُ إلْغَاءُ الشَّكِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى كُلِّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مِنْ وَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكِ الرَّيْبِ إلَى الْيَقِينِ وَمُخَالَفَةِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْءِ امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا وَنَسِيَهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمُطَلَّقَةَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ الْفَرْضِ فَلَا جَائِزٌ إلْزَامُهُ بِالشَّكِّ، وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْحِكَمِ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} نَسْخُ تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ أَوْ بَعْدَ النَّوْمِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ إنَّمَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجِمَاعِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُجَامِعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ إذَا صَادَفَ فَرَاغَهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعُ الْفَجْرِ يُصْبِحُ جُنُبًا، ثُمَّ حَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} وَفِيهَا حَثٌّ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} مَعَ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ وَاحْتِمَالِ الْآيَةِ لَهُ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَهُ لَمَا جَازَ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ وَفِيهَا النَّدْبُ إلَى التَّرَخُّصِ بِرُخْصَةِ اللَّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ} فَثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِهِ فَهُوَ مِنْ النَّهَارِ.
وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الِاسْتِبَانَةُ وَالْيَقِينُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَحْظُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ الِاسْتِبَانَةِ مَعَ الشَّكِّ؛ وَهَذَا فِيمَنْ يَصِلُ إلَى الِاسْتِبَانَةِ وَقْتَ طُلُوعِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَصِلُ إلَى ذَلِكَ لِسَاتِرٍ أَوْ ضَعْفِ بَصَرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْخِطَابِ لِمَا بَيَّنَّا آنِفًا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ.
وَوُرُودُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ الْإِطْلَاقِ إذَا كَانَ وُرُودُهُ بَعْدَ الْحَظْرِ، عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَنْدُوبًا وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى جِهَةِ السَّحُورِ وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ السَّحُورَ بَرَكَةٌ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِكُمْ وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحُورِ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الزِّئْبَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نِعْمَ غَدَاءُ الْمُؤْمِنِ السَّحُورُ وَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» فَنَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّحُورِ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ أَكَلَةُ السَّحُورِ، فَيَكُونَ مَنْدُوبًا إلَيْهَا بِالْآيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ الرُّخْصَةَ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا عَلَى وَجْهِ السَّحُورِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ وَاحِدٌ نَدْبًا وَإِبَاحَةً؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِظَاهِرِ السُّنَّةِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ إطْلَاقُ إبَاحَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ لَا تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ الْمُقَدَّرِ بِهَا، بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وَحَالُ التَّبَيُّنِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ فِيهَا وَلَا مُرَادَةٌ بِهَا؛ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَجَعَلَ اللَّيْلَ غَايَةَ الصِّيَامِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ، وَقَدْ دَخَلَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وَالْغَايَةُ مُرَادَةٌ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} قَدْ دَخَلْتَ الْغَايَةُ فِي الْمُرَادِ؛ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي حَالٍ وَلَا تَدْخُلُ فِي أُخْرَى وَأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إسْقَاطِ حُكْمِهَا أَوْ إثْبَاتِهِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ عَطْفَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَ إبَاحَتَهَا لَيْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي بَعْضُهَا إمْسَاكٌ وَبَعْضُهَا شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِمْسَاكِ صَوْمًا شَرْعِيًّا.
وَفِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَصَّلَ مُفْطِرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ ضَرْبٌ مِنْ الصِّيَامِ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السلام: «بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ بَعْدَ الْأَكْلِ صَوْمًا.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَوْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} الْمُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ، قِيلَ لَهُ: هَذَا عِنْدَنَا صَوْمٌ شَرْعِيٌّ قَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَجْزِيهِ مِنْ فَرْضِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَالْإِتْمَامُ يُطْلَقُ فِيمَا قَدْ صَحَّ الدُّخُولُ فِيهِ، وَهُوَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْخِطَابُ بِالْإِتْمَامِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا أَصْبَحَ مُمْسِكًا عَمَّا يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ قَضَاءُ فَرْضٍ وَلَا تَطَوُّعٍ؛ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَوْمٌ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ اتِّفَاقُ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مُمْسِكًا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيَجْزِيهِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا مَضَى صَوْمًا يَتَعَلَّق بِهِ حُكْمُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ لَمَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الصَّوْمِ بِإِيجَادِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْوِيَ صِيَامًا تَطَوُّعًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.